تفسير سورة البقرة
موقف الناس من القرآن الكريم
ابتدأ اللّه تعالى سورة البقرة، المدنيّة النزول (ما بعد الهجرة ولو في مكّة)، ببيان موقف الناس من القرآن الكريم، وذكر أنهم ثلاثة أصناف، فمنهم من آمن به وعمل صالحا، وأولئك هم المفلحون، ومنهم من كفر به واستكبر عن الحق قولا وعملا، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ومنهم من آمن بالله وباليوم الآخر قولا باللسان فقط، وبقي قلبه مملوءا بالكفر والضّلال، وأولئك لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون، وهم المنافقون.
قال مجاهد: أربع آيات من أول البقرة نزلت في المؤمنين، وآيتان في الكفار، وثلاث عشرة آية في المنافقين.
أما المؤمنون المتّقون فلهم أوصاف أربعة: الإيمان الصادق بالغيب الذي أخبر اللّه عنه، وقام الدليل عليه، فلا يقتصرون على المادّيات والمحسوسات، وإنما يؤمنون بما وراء المادة، ويقيمون الصلاة باعتبارها عماد الدين، ويؤتون الزكاة للفقراء والمساكين، والزكاة أساس بناء المجتمع، كما أن الصلاة أساس بناء الفرد، ويؤمنون بجميع ما أنزل اللّه على رسله من الكتب السماوية ويؤمنون بالآخرة إيمانا يقينيا لا شبهة فيه، ولا شك
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قال اللّه تعالى مبيّنا منزلة القرآن السامية وأنه الكتاب الكامل، وواصفا هؤلاء المؤمنين:
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
«1» «2» «3» [البقرة: 2/ 1- 5].
ثم ذكر اللّه صفات الكافرين كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما ممن جاهر بتكذيب القرآن، فاستوى عندهم الإنذار وعدمه، إذ لا ينتفعون به، فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي المتمثل في آيات القرآن، ويحجبون أسماعهم وأبصارهم عن هذه الآيات ويتعامون عنها، فأولئك لهم عذاب عظيم شديد خاص بهم، وكان العيب فيهم وفي أطباعهم لا في القرآن، لذا ختم اللّه على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم بكفرهم وعنادهم، قال اللّه تعالى مبينا صفات هؤلاء الكافرين:
[سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
«4» «5» [البقرة: 2/ 6- 7].
إن البصير العاقل هو الذي يتأمل في مستقبله وفي الحق الذي ينفعه، وينفر من الباطل والضلال، ويوازن بين صفات المؤمنين البنّاءة التي هي إيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإيمان باليوم الآخر، وصفات الكفار الهدامة التي هي دمار وخراب، وابتعاد عن هداية اللّه الحقّة، وانكباب في نار جهنم، والمؤمن هو المواطن الصالح الأمين، والكافر هو العدو الخائن لنفسه وأمته ومجتمعة.
__________
(1) القرآن العظيم.
(2) لا شك في أنه من عند اللّه.
(3) الذين امتثلوا الأوامر وأدّوا الفرائض وتجنّبوا المعاصي
(4) طبع اللّه تعالى عليها.
(5) غطاء وستر
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
أوصاف المنافقين
في أوائل سورة البقرة نزلت ثلاث عشرة آية في المنافقين (8- 20) والنفاق جبن وخيانة، وكذب وضلال، ومرض وخداع، لذا سرعان ما ينكشف شأن المنافقين، ويحتقرهم المجتمع، وتنبذهم الأمة. والنفاق واليهودية شيئان متلازمان لأنه ينشأ عن جبن وضعف حقيقي ولؤم طبعي، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله، واليهودي يخادع الناس ويتآمر عليهم. وكثيرا ما لاقى النّبي صلّى اللّه عليه وسلم من النفاق والمنافقين، وكم كان للنفاق في المجتمعات من أضرار بالغة، والجاسوس المتآمر على وطنه وأمته منافق، والتّجسس الذي يخدم العدو مظهر من مظاهر النفاق.
والمنافقون أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة لأنهم أعداء في داخل الأمة، ولا يقتصر وجود المنافقين على عصر النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فقط، بل يمكن ظهور المنافقين ووجودهم في كل عصر ومكان.
ذكر اللّه صفات المنافقين، وأولها إظهار الإيمان بالله واليوم الآخر، وإبطان الكفر والضلال، ومخادعة اللّه، مع أن اللّه عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم، قال اللّه تعالى:
[سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
«1» «2» [البقرة: 2/ 8- 10].
والمنافقون قوم يثيرون الفتن والتجسس لحساب الأعداء وتأليبهم على المسلمين فهم مفسدون في الأرض ويزعمون أنهم مصلحون، فهم لا يدركون الواقع المحسوس، ولا يشعرون بحالهم.
وإذا دعوا إلى الإيمان سخروا من المؤمنين وو صفوفهم بأنهم سفهاء ضعفاء العقول جهلاء، وهم السفهاء في الواقع.
__________
(1) يعملون عمل المخادع.
(2) شك ونفاق وتكذيب